الأربعاء، 18 يوليو 2012

التغير في رمضان والعلاج النفسي

التغير في رمضان _ والعلاج النفسي

المحور الأول _رمضان والعلاج النفسي
المحور الثاني _ما المعاني التي ينبغي أن تخرج بها من رمضان ؟
المحور الثالث _ما هي الشخصية السوية التي ينبغي أن تحافظ على معاييرها بقية العام

بقلم /محمد فريد ..

المحور الأول : رمضان والعلاج النفسي :


مدار رمضان على التغيير .. والعلاج النفسي " تغيير " للسيئ من صفات الإنسان .. فهل رمضان شهر علاج النفس ؟
لكي نجيب على هذا السؤال ينبغي أن نعرف :
• ما هو العلاج النفسي ؟
• كيف يمكن لرمضان أن يكون أساساً للإصلاح ؟

العلاج النفسي :


هناك الكثير من النظريات والمدارس العلاجية ، ولكن يمكن أن نقول بشكل عام أن :
• مدار العلاج النفسي على : تغيير التصورات والأفكار ، ثم تغيير العادات السلوكية.
• لا يمكن أن يخرج السلوك دون أساس من الأفكار والتصورات ، يُنتِجُ انفعالاً نفسياً ، ثم يظهر للآخرين في صورة سلوك .
• حين تتراكم السلوكيات ينتج ما نسميه " العادة " .
• فالعادة هي : سلوكيات تكررت وعُزِّزت ويميل الإنسان إلى ممارستها .
أثر العادة على الإنسان :


• إذا استمرت العادة جعلت الإنسان عبداً لها ، وأشعرته بشدة الحاجة إليها ، بينما قد يكون مستغنياً عنها.
• العادة تحصر أفكار الإنسان ضمن حدودها ، وتشوه بناء القيم لديه ، فلا يرى صواباً لشيء إلا ضمن حدود ما اعتاد عليه (الذي اعتاد على السهر يعجب ممن ينام مبكراً ، والذي يعتاد الحديث يعجب من الصامت ... والتي اعتادت على السفور تُخَطِّئ المحجبة .. إلخ ) .
• العادة تجعل الإنسان يهمل الكثير من طاقاته ، ويستثمر جزءاً منها فقط ، لأنه قد اعتاد أنه لا يحسن غير هذا ، رغم أن هذا التصور غير صحيح .
والعلاج النفسي يسعى إلى تغيير الأفكار الخاطئة ، وكسر العادات السيئة ، وإبدالها بأفكار صحيحة ، وعادات حسنة . وكسر العادة بالغ الأهمية في العلاج النفسي ، فالمريض يهرب من مواجهة مرضه ، خوفاً من كسر عادته ، والمدمن ينتهي من أثر المواد المخدرة على جسمه ، ولكن يبقى أثر العادة على نفسه .. وهو الأشد.
وإبدال العادات ليس إبدالاً صورياً بتغيير السلوك الظاهر فحسب ، وإنما هو إبدال جوهري بتغيير باطن النفس .. عبر سلوكيات ظاهرية .. وهو المعني بقوله تعالى " لعلكم تتقون " .. أي لعلكم تغيرون من نظرتكم إلى ذواتكم وإلى العالم من نظرة تخلو من مراقبة الله تعالى إلى نظرة مرتبطة به دائرة حول معرفته .
ضمن هذا الإطار العام يمكن أن ننظر إلى شهر رمضان المكرم ، وعباداته ،
ومدى صلاحيته ليكون قاعدة علاجية تعيد من خلالها بناء نفسك .

رمضان وكسر العادة :


رمضان شهر ضمن اثني عشر شهراً ، ولكنه يكسر عادة السنة في كثير من مظاهره . ومن مظاهر كسر العادة في رمضان :
• أشد العادات الإنسانية مرتبطة بأشد الغرائز : غريزة الطعام والشراب ، وقد انتقل الطعام والشراب من الحاجة إلى العادة .. فكثيراً ما نطعم لا رغبةً في الطعام وإنما اعتياداً على تناوله في وقت محدد ، أو ملأً لوقت فراغ لا نجد ما يملاه.
• قد يتسع الجنس في تصور الفرد وسلوكه ، ويصبح شاغلاً له عن الإبداع في شؤون الحياة المختلفة ، ويتعدى المرء ما أُحِلَّ له إلى ما نهي عنه ، ويتحول الجنس من علاقة إنسانية سامية إلى سلوك استهلاكي رخيص ، والصوم يأتي ليكسر حدة هذه التصورات الجنسية الشوهاء ، ويعيد ضبط الرغبة الجنسية ضمن الحدود الملائمة لها. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " .
• يعتاد المرء على كثير من السلوكيات الخاطئة اجتماعياً ، والعاصية شرعاً ، ويستمرئها ، ثم يأتي رمضان ليكون مرحلة يقف فيها العبد أمام سلوكه ليفرز ما فيه من خير وشر ، لأنه لا يكتمل للصائم أجره حتى يطهر نفسه من المعصية : " رُبَّ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش " .
• كل المفكرين على مدى التاريخ كانت لهم ممارسات قريبة من ممارسات الصيام : تقليل الطعام والشراب والممارسات الجنسية ، والإكثار من التأمل والتفكر ، بحثاً عن إدراك الحقيقة ، وتطهير النفس

المحور الثاني : ما المعاني التي ينبغي أن تخرج بها من رمضان ؟

 


مقاصد عبادات رمضان وأثرها في تزكية النفس :
إذا تأملت مقاصد العبادات في رمضان .. سهل عليك إدراك الحكمة منها ، واستطعت أن تستصحب آثارها فيما بقي من العام. ومن أهم مقاصد عبادات رمضان التي نُذَكِّرُك بها وأنت على أعتاب نهايته :
التخلص من العادة :


• أكثر ما اعتاد الإنسان عليه في حياته : الطعام والشراب ، ويتحول الأكل بالنسبة للإنسان من : سد للجوع إلى التلذذ بالأصناف المختلفة ، ثم ينتقل إلى الاعتياد على الطعام واعتباره مداراً للحياة حتى يصح القول المشهور "إنه يعيش ليأكل ولا يأكل ليعيش " . وسد الجوع يكفيه ما يأكله عقب الصوم ، لأن المرء قادر على أن يصبر على الطعام والشراب نصف يومه وليلته . وكأن الإسلام يقول للإنسان من خلال عبادة الصوم : ما دمت قادرا على تغيير أهم عادات يومك ، فأنت قادر على تغيير ما عداها.

• أنتوني روبنز أحد المتميزين فيما يسمى " البرمجة اللغوية العصبية " ومن المقدمين المشهورين لدورات تطوير الذات .. يقدم في بعض دوراته تجربة أن يمشي المتدربون على الجمر .. وفلسفته في ذلك : أن من قدر على المشي على الجمر (وهي تجربة شبه مستحيلة بالنسبة له) قادر على مواجهة ما هو أقل من ذلك في حياته . وفلسفة الصيام أكثر عمقاً ، وكأنما تقول : ما دمت قادراً على ضبط ما أنت متعود عليه كل يوم ؛ فأنت قادر على ضبط ما عداه . لأن مشكلة الإنسان ليست مما يندر حدوثه ، وإنما مما يشيع حدوثه لديه.
تهذيب الفردية :


• شهر الصوم يواجه الأنانية والفردية ، وتمركز الإنسان حول نفسه ، وانصرافه عن التواصل مع غيره ، وهي أساس في كثير من الاضطرابات النفسية ، فالأفكار اللاعقلانية المسببة للأمراض أفكار متمحورة حول الذات ، وأزمة المريض النفسي أزمة عدم توافق مع الذات ، ثم عدم توافق مع الآخر.

تنمية شعور الرحمة بالآخرين :


• الصوم فقر إجباري يفرضه الإسلام على الناس ليتساووا في الشعور به (لتشارك الفقير في : قلة طعامه وشرابه ، وعدم قدرته على النكاح) ، فهو بهذا يفرض المساواة في أعلى معانيها دون لجوء إلى فجاجة مذاهب البشر كالاشتراكية وغيرها. وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم دالة على رهافة إحساس المسلم بأخيه : " ما آمن بي من بات شبعان، وجاره جائع إلى جنبه، وهو يعلم به " رواه الطبراني والبزار بإسناد صحيح . وقوله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا ذر، إذا طبخت مرقًا فأكثر ماءه، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف " رواه مسلم.

• يجمع الإسلام الأمة على شعور واحدٍ من التراحم ، فهي به متماسكة تحت مفهوم "الشفقة" . ولأن الرحمة إنما تنشأ عن الألم ؛ فإن تألم الصائم ضروري لشعوره بالرحمة.

• بتجربة الصوم يتحول شعور الغني بطلب الفقير من رجاء إلى أمر ، وينتقل البذل من : " الجود المتفضل " إلى " الواجب ".
ضبط النفس والمراقبة الذاتية :


• يتجاوز الصوم معنى ترك الطعام والشراب إلى : تعلم كيفية التحكم بالرغبات والغرائز وإخضاعها للفكرة السامية والشعور الروحي النبيل . فالإنسان يدع الطعام بإرادته ثم يتناوله وقت إذن الله له بإرادته ، وفي هذا ارتقاء بالإنسان من الإكراه إلى الاختيار. وتعويد على أن يكون مركز الضبط داخلياً وليس خارجياً.

• في الصيام : شهوة الإنسان تابعة لفكرته السامية ، وهو مبدأ العلاج النفسي : أن تتغير الفكرة السيئة ، ويحل محلها فكرة حسنة فعالة ، وينتظم الإنسان من خلالها.

• الصوم يطلع الإنسان على قدراته الكامنة التي لم يكن يستثمرها لغلبة العادة عليه ، ويفتح له باباً إلى استثمارها .

صلة الإنسان والمجتمع بدستور الأخلاق الإسلامية :


" •شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان " . ربط الله جل وعلا الشهر بالقرآن ، وفي هذا ربط له بمستودع أفكار الإسلام وقيمه وتنظيمه للوجود ، فيه أنزل ، وهو أولى الشهور بالعناية بتطبيق مبادئ الإسلام فيه .

وقد رُبِط المسلم في رمضان بالقرآن بأكثر من صورة :

• قيام الليل "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" رواه البخاري ومسلم.
• الاقتداء بمراجعة جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم للقرآن في رمضان من كل سنة .
• علة الصوم " الحصول على التقوى : " لعلكم تتقون " ، وشكر الله على نعمته " ولعلكم تشكرون " . والتقوى تعني : تربية آلية الرقابة التي تمنع المرء من الوقع في الخطأ ، وتدفعه إلى فعل الصواب . وتعريف الإمام علي رضي الله عنه لها بأنها : الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والرضا بالقليل ، والاستعداد ليوم الرحيل ، هو ذكر للعناصر الرئيسية التي تعين على تحقيقها : وهي عناصر : فكرية ، وانفعالية ، وسلوكية .


التسامح مع الآخرين :


• قال تعالى " كما كتب على الذين من قبلكم " وفي هذا إشعار بوحدة التاريخ الإنساني ، ليشارك المسلم في شعوره من قبله من الأديان في فرض الصوم عليها ، وليتعلم عبر ذلك التسامح والمشاركة الإنسانية مع الآخرين حتى ولو اختلفوا معه في معتقده .

إدارة الوقت


• يلح رمضان على رهافة شعور المسلم بالوقت فلحظة بعد الفجر تبطل صيامه إن أكل فيها ، وإفطاره قبل المغرب بدقيقة يبطل صيام يومه كله ، مما يشعره أن اللحظة ذات قيمة فارقة ، والوقت هو العنصر الرئيسي في معادلة الحضارة للأمة ، والتغيير للفرد . ورمضان شهر داخل السنة هو أفضل شهورها ، ثم العشر الأواخر هي أفضل الثلاثين يوماً ، ثم ليلة القدر هي أفضل ليلة في العام ، مما يركز لدى الإنسان مبدأ " تفاضل الأوقات " ، ويوجهه إلى اغتنام الأعمال الملائمة في الأوقات الفاضلة ، مما يعيد إليه ميزان إدراكه للزمن .
تحقيق العبوديـــة :


• الغاية العظمى من تشريع العبادات هو تحقيق كمال العبودية لله عز وجل ولا بد أن يظهر هذا في أخلاق المسلم . ورمضان يتقلب في فصول السنة كلها : الصيف والشتاء والربيع والخريف ، وذلك لإشعار العبد بتقديم العبودية في جميع أوقات العام وحالاته من حر وبرد وانشغالٍ وفراغ .
• اقترن رمضان بالدعاء حتى تداخلت آيات الصوم مع آيات الدعاء ، والدعاء من أجلِّ عبادات رمضان ، وهو يرسخ عند العبد شعوره بالافتقار إلى ربه جل وعلا ، عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- قال يومًا وقد حضر رمضان: "أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه؛ فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته؛ فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمه الله عز وجلَّ" رواه الطبراني ورواته ثقات. و عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله: أرأيت أن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنّي" رواه الترمذي. وقال صلى الله عليه وسلم " إن للصائم عن فطره دعوة لا تُرَد " .

تعليم الصبر :


• قال الشيخ عبد القادر الجيلاني رحمه الله : " لابد لكل مؤمن في سائر أحواله من ثلاثة أشياء : أمرٍ يمتثله ، ونهيٍ يجتنبه ، وقدرٍ يرضى به " . ومدار الأمر والنهي والقدر على الصبر ، وقد جعل الله تعالى الصبر واليقين طريقاً لنيل الإمامة في الدين : " وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ " . والعلاج النفسي مبني على المجاهدة ، والمجاهدة معتمدة على الصبر .

تهذيب الخلق :


• الصوم ليس صوماً عن الطعام والشراب والنكاح فحسب ، وإنما هو صوم النفس عن متابعة سيء الخلق والعادات " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه " . وقول الزور والعمل بالزور ، هو : قول خلاف الحق ، وعمل خلاف الحق ، فكأنه نهيٌ عن كل سيء ، وأمرٌ بكل حسن. " الصيام جُنَّة ، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب - وفي رواية: (ولا يجهل)- فإن امرؤ سابه أو قاتله فليقل: إني صائم، مرتين" متفق عليه . وإذا تجاوز العبد هذا المعيار الأخلاقي أدركه قول النبي صلى الله عليه وسلم " رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش" ، ولهذا ذهب بعض السلف إلى : أن المعاصي كلها تُفطِّر، ومن ارتكب معصية في صومه فعليه القضاء، وهو ظاهر ما روي عن بعض الصحابة والتابعين، وهو مذهب الإمام الأوزاعي ، وهو ما أيده ابن حزم من الظاهرية. وإن كان جمهور العلماء قد ذهبوا إلى أن المعاصي لا تُبطل الصوم، ولكن تخدشه وتصيب منه، بحسب صغرها أو كبرها.


تدريب المسلم على التوازن :


• فنصف يومه جوع ، ونصفه إذنٌ بالطعام ، ونصفه ترك للجنس ، والنصف الثاني سماح له به ، وهو نوع من إعادة التوازن المضطرب إلى الإنسان.


المحور الثالث : ما هي الشخصية السوية التي ينبغي أن تحافظ على معاييرها بقية العام :

 

 

الشخصية السوية :


تبنى الشخصية السوية للإنسان على " العلاقة الصحية مع الذات " ، وتعتمد على :
فهم الذات : بمعرفة نقاط القوة والضعف فيها معرفةً أقرب إلى الواقع ، فلا يبالغ فيها ولا يقلل منها . تقبل الذات : أن يقبل ذاته بكل ما فيها من إيجابي وسلبي ، دون أن يعني ذلك قبوله للسلوك السلبي .
تطوير الذات : أن لا يقنع بما هو عليه وإنما يسعى للنمو والتحسن . فتقبل الذات مقدمة لتحسينها لا للاكتفاء بما وصلت إليه . لأن من يرفض ذاته يرفض تحسينها.

أهم سمات الشخصية السوية :


• القدرة على التعاون مع الآخرين .
• تحمل المسئولية وتقديرها .
• القدرة على التحكم في الذات .
• القدرة على الحب والثقة المتبادلة .
• النضج الانفعالي .
• القدرة على مواجهة الأزمات العادية .
• القدرة على العمل والإنتاج بما يتناسب مع الإمكانات .
• الشعور بالرضا والطمأنينة .
• القدرة على إنشاء علاقات إنسانية متوازنة مع الآخرين : عدم الاعتماد عليهم ، وعدم النفور منهم .


والإسلام يقر هذه الصفات السوية وينميها في نفس المسلم ، ويضيف إليها سمة تميزه ، هي سمة " الوسطية " " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " ،
فالسلوك السوي في الإسلام يمثل توازناً بين : الجماعية
والفردية :

 

ففي رمضان تزكية لبعد " الجماعية " بالعبادات المشتركة " : صلاة التراويح ، تفطير الصائم ، الشعور بآلام الآخرين ممن لا يجدون ما ينفقون .... إلخ " ولبعد " الفردية " (مراقبة الله تعالى في الصوم ، الاعتكاف .. الخ) . في توازنٍ لا يسمح للجماعية أن تطغى فيعتاد الإنسان على مسايرة الآخرين والتبعية لهم " الإمَّعِيَّة " ، ولا " للفردية " أن تتجاوز لتظهر الأثرة والأنانية والتعالي على الخلق والنظر إليهم باعتبارهم أدوات لتحقيق رغبات الذات " النرجسية المفرطة " .


الروحية والمادية :


في الإسلام توازن بالغ الرهافة بين الروحية والمادية ، فثمت أديان تجعل الوصول إلى الله تعالى لا يتم إلا عبر إماتة الجسد البشري ، وحرمانه من أهم رغباته وحاجاته ، وثمة أنظمة دنيوية أطفأت الجانب الروحي في الإنسان وجعلت حياته مسيرة دائبةً لتحقيق مطالب الجسد فحسب ، أما الإسلام فيرى أن الجسد تجلٍ من تجليات الروح ، وأنك لا تعبر إلى الرقي الروحي إلا بعد إعطاء الجسد حقه ، وقد تجلى ذلك بوضوح في عبادات رمضان . فالصوم في الإسلام لا يُسمَح فيه بتجاوز الحد تعذيباً للبدن ، إذ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن " الوصال في الصوم " ورغَّبَ في تعجيل الفطر وتأخير السحور ، حتى لا يتكلف أحدٌ فيتجاوز الحد المشروع ، وأذن للعباد أن يأووا إلى نسائهم ليلة الصيام " أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم ، هنَّ لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن ".
أما الروح فتنال نصيبها في الصوم عبر الشعور بالقرب الإلهي ، وزيادة العبادات الباعثة إلى ذلك.

العبادة والعمل :


إذ لا يرى الإسلام فرقاً بين عبادة وعمل ، فكل عمل عبادة إن أخلص المرء فيه لله ، وعمله على مقتضى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التطوع والالتزام :


في " الالتزام " تحديد للحد الأدنى الذي ينبغي أن يسير عليه كل فرد ، وفي فتح باب التطوع مراعاة للفروق الفردية بين البشر ، فمن شاء أن يستزيد استزاد .
وفي عبادة الصوم مثالٌ على ذلك : فالأساس أن لا يترك المسلم صيام شهر من كل عام ، لأنه لا يمكنه أن يشعر بالآخرين ويرتقي بالنفس دون ذلك ، ثم يفتح باب التطوع لمن شاء أن يستزيد مراعاةً للفروق الفردية (ثلاثة أيام من كل شهر ، الاثنين والخميس ، ست من شوال ، يوم عرفة ، عاشوراء .. صيام يوم وإفطار يوم) كلٌ بحسب ما يجد من راحة نفسه.
الثبات والتغير :

 

يركز الإسلام على الأسس التي لا تتغير في طبيعة الفرد بتغير الزمان والمكان ، فيجعلها أصولاً ثابتة لا ينالها التغيير ( كأصول الإيمان ، وأصول الشرائع ) ، ثم يفتح الباب أمام ما يمكن أن يتغير بتغير الأزمنة والأمكنة ، بعد أن يضع لها الأصول العامة.
ولأن الصوم مرتبط بشيء ثابت في عمق الإنسان (وجوب الشعور بالآخر ، تصفية النفس من الشوائب ، التعالي على العبودية لرغبات الجسد) فهو من ثوابت الإسلام التي لا تتغير .
أما المتغيرات فتتمثل في سبل الخير التي يختارها الإنسان لتترافق مع صيامه ، تزكيةً لنفسه ، وارتقاءً بها .

الإيجابية والسلبية :

 

لكل عبادة في الإسلام جانبان : الترك والفعل . فأنت تترك الزنا للزواج ، وتترك التكبر على الناس للتواضع لهم ، فهي سلبية أمام فعل الشر ، وإيجابية في سلوك الخير .
وللصوم أفعال ترك سلبية : (ترك قول الزور والعمل به ، ترك الرفث ، ترك الطعام والشراب والنكاح في نهار رمضان).
وأفعال إيجابية : الإكثار من ذكر الله تعالى والصلاة والصدقة .... وخصال الخير.

المثالية والواقعية :


الإسلام يحدد للمسلم مثاليات يمكنه أن يصل إليها عبر واقع الحياة اليومية ، ولا يغرقه في المثالية الزائفة التي لا يمكن للبشر الوصول إليها (كمثالية ترك الزواج بالكلية .. أو مثالية المبالغة في الجوع حتى لا يكاد يقوم الإنسان بواجبات الحياة عليه) . وهو – على الجانب الآخر – لا يثبطه عن الأهداف المثالية بحجة الواقعية الزائفة التي تحصر الإنسان في تصورات الضعف والعجز ورمضان يحقق معادلة (الواقعية – المثالية) الإسلامية ، إذ أهدافه بالغة السمو والمثالية (رهافة الشعور الإنساني بالآخرين ، تنمية المراقبة الذاتية ، تجاوز الرغبات الدنيئة) ويتم ذلك عبر سلوكيات واقعية بسيطة (الصوم بصورة معينة ، الإكثار من العبادات إلى حدٍّ معين ... إلخ) .

يتحدد بالوازع الداخلي والوازع الخارجي :


يهتم الإسلام بأن يكون مبعث كل سلوك للإنسان داخلياً من أعماق ضميره هو ، ولكنه لا يتهاون مع من قلَّ ضبطه الداخلي ، كي لا يفسد على المجتمع قيَمَه ، ولهذا وضع تشريعات للضبط الخارجي . فمن أفطر في نهار رمضان لقلة وازعه الداخلي عوقب من قبل ولي الأمر حتى لا يفسد على البقية عزيمتهم .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كلمات خالدة

إهداء إلى كل من أشعل نفسي بالحماس ..
إلى من ينشرون الأمل في قلوب الناس ..

أرشيف المدونة الإلكترونية

Translate

إجمالي مرات مشاهدة الصفحة